لم يغادر التفكيرُ الفلسفي بحثَ وتحليل قضايا الدين والمقدّس والإله، منذ نشأة هذا التفكير حتى اليوم. فليس هناك فيلسوف لم يتناول هذه القضايا ويعالجها إثباتاً أو نفياً. وفي وقت مبكر صنّف الفلاسفةُ مباحثَهم، في “الحكمة النظرية” إلى: الإلهيات، الرياضيات، الطبيعيات…فدرسوا في الإلهيات بالمعنى الأعم الوجودَ المطلق، أي البحث عن أحوال الموجود من حيث هو موجود. فيما درسوا في الإلهيات بالمعنى الأخص وجودَ الله، وتوحيده، وصفاته، وأفعاله، وما يرتبط بذلك من مسائل.
كانت الإلهيات الطبيعية تستخدم مناهج البحث العقلية في الدفاع عن الإلهيات بالمعنى الأخص والبرهنة عليها. أمّا الفلاسفة الإسلاميون من الكندي إلى صدر الدين الشيرازي، فقد استوعبت الإلهيات بالمعنى الأخص، وما يتصل بها من مباحث النبوات والوحي وغيرها، مساحة واسعة من مؤلفاتهم
اقترن اللاهوت الطبيعي باسم القديس توما الإكويني (1224 ـ 1274)، الذي يؤكد على إمكانية الاستدلال العقلي على كافة المعتقدات اللاهوتية، من دون حاجة للاستعانة بالوحي. واللاهوت الطبيعي يقابل اللاهوت الوحياني؛ وهو اللاهوت النقلي الذي يتخذ من الوحي طرقاً للوصول إلى المعتقدات. غير أنّ اعتماد العقل في إثبات المعتقدات يعود إلى ما هو أقدم من عصر توما الإكويني، فالفلاسفة اليونان استخدموا الأدلة العقلية في البرهنة على وجود الله.
إنّ قضايا الإله والدين والمقدس ما زالت حاضرة بكثافة في آثار الفلاسفة الغربيين، منذ العصر اليوناني حتى اليوم. ولا تتطابق رؤيتهم عادة لهذه القضايا مع آراء الكنيسة ولاهوتها، ذلك أنّهم يفكرون فيها ويتأملونها في سياق مفاهيمهم للوجود والمعرفة والقيم. فمثلاً يعترف بنيدكت سبينوزا (1632 ـ 1677) لصديقه هنري أولدنبرج السكرتير الأول للجمعية الملكية في لندن، بقوله: “إنّني أعتنق رأياً عن الإله والطبيعة يختلف كلّ الاختلاف عن الرأي الذي يدافع عنه المسيحيون المحدثون، فأنا أعتقد أنّ الإلهَ هو ـ كما يقولون ـ العلةُ الباطنة للأشياء جميعاً، ولكني لا أعتقد أنه العلة المتعدية. وأنا أقول: إنّ كثيراً من الصفات التي يرون، ويرى جميع الآخرين، الذين أعرفهم على الأقل ـ أنّها من صفات الإله ـ أرى أنّها أشياء مخلوقة. ومن ناحية أخرى، فإنّ الأشياء التي يرون أنّها مخلوقة ـ بسبب تحيزاتهم ـ أرى أنّها صفات للإله، ولكنهم يسيؤون فهمها، وكذلك لا أستطيع أن أفصل الإله عن الطبيعة على الإطلاق. وهذا ما فعله كلُّ من أعرفهم”.
وعلى الرغم من أنّ حضور ما يتصل بالله والدين كان لافتاً في الفلسفة الحديثة، لكنّ الفيلسوف “إيمانويل كانت” (1724 ـ 1804) كان أول من قدَّم صياغةً فلسفية معمقة هامّة للدين. إذ “كان يشعر أنّ الثقافة الغربية تعاني من آلام محنة، تتصل باعتقادها التقليدي في الله، وأنّ حلاً فلسفياً وسيطاً صادقاً قد أصبح ضرورة ملحّة” ففي كتابه “نقد العقل المحض” اقترح نظرية في المعرفة لا تقوم على أساس ميتافيزيقي، وناقش كافة البراهين الميتافيزيقية على وجود الله. وفنّد اللاهوتَ الطبيعي الذي كان سائداً في عصره. وشدّد على عدم إمكان معرفة الله نظرياً. لكنه دافع عن الأساس الأخلاقي للدين والاعتقاد بالله، في كتابيه: “نقد العقل العملي”، و”الدين في حدود مجرد العقل”. وحين نفى “كانت” الاعتقادَ النظري بالله، رأى الاعتقادَ الأخلاقي راسخاً لا يتزعزع. فإنّ: “مفهوم الله لا ينتمي أصلاً إلى الفيزياء، أو الى العقل النظري، بل إلى الأخلاق” الإيمان عند “كانت” يتأسس على الأخلاق، التي يحكم بها العقلُ العملي؛ بمعنى “أنّ الأخلاق إنّما تقود على نحو لا بدّ منه إلى الدين. الأخلاق مؤسسة على مفهوم الإنسان، الأخلاق لا تحتاج أبداً فيما يتعلق بذاتها إلى الدين، بل بفضل العقل المحض العملي، هي مكتفية بذاتها” الإنسان لا يتحلى بالأخلاق لأنّه متدين، وإنّما يتدين لأنّه أخلاقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق