ظهر هذا الكتاب سنة 1790 وصدرت له في حياة المؤلف ثلاث طبعات وقد كان هدف كنت في هذا الكتاب إكمال مشروعه الفلسفي يقول: « أنا مشغول بنقد الذوق، وإني أكتشف في مجاله نوعا من المبادئ القبلية مختلفا عن المبادئ القبلية السابق لي بيانها ذلك أن مبادئ الروح ثلاثة: ملكة المعرفة، والشعور باللذة والألم، وملكة الرغبة ( الإرادة ). وقد وجدت مبادئ قبلية بالنسبة للملكة الأولى وذلك في نقد العقل المحض ( النظري )، وبالنسبة إلى الملكة الثالثة في نقد العقل العملي، ولذا رحت أبحث أيضا عن مبادئ قبلية بالنسبة إلى الملكة الثانية». هذا الكتاب هو بحث للعثور على مبادئ قبلية لأحكامنا الجمالية في النظام أو الجمال أو الجلال في الطبيعة أو الفن.
يقسم كنط مباحث هذا الكتاب إلى قسمين: الأول: نقد ملكة الحكم الجمالية والثاني نقد ملكة الحكم الغائية.
يقسم كنت الجزء الأول ( نقد ملكة الحكم الجمالية ) إلى قسمين القسم الأول: تحليل الجميل والقسم الثاني هو تحليل السامي. ومنذ الفقرة الأولى في القسم الأول يقرر كنت أن حكم الذوق هو حكم جمالي والذوق هنا هو ملكة إصدار حكم بأن شيئا ما جميل. ولكن هل الحكم بالجمال هو حكم معرفي؟ لا فنحن لكي نميز الجميل فإننا نعيد تمثله إلى مخيلة الذات وشعورها باللذة والألم وليس إلى الذهن من أجل المعرفة. وبالتالي فإن حكم الذوق ليس حكما معرفيا ولا منطقيا بل هو حكم جمالي وذاتي. وهذا الحكم هو موضوع الرضا الخالي من كل مصلحة. ولذا فإن الشاعر بجمال شيء يرى أن الكل سيجدونه جميلا لأنه لا يعتقد أن شعوره بالجمال جاء بسبب ذاتي أو مصلحة بل هو فعل مطلق الحرية. ويفرق كنت بين الملائم والجميل والخيّر بأن الملائم هو حكم قائم على شعور شخصي ولذلك نقول « ملائم لي » أما الجميل فهو حكم نعتقد أنه مشترك عند الجميع ولو لم يعوه أما الخيّر فهو حكم مبني على مفهوم سابق « قيم معينة » وهذا ملا يتوفر في الملائم والجميل.
لا يمكن الإقناع بجمال شيء ما لأن جماله ليس مبنيا على مفاهيم ومعرفة بل هو اتصال مباشر بين هذا الشيء الجميل والذات، ولذا فإنك مهما بررت جمال شيء ما فلن يفيد إلا أن يراه الآخرون ولا تحتاج حينئذ لثرثرة تقنعهم بجماله. وكل شاعر بجمال شيء يسلم بأنه جميل بالنسبة للكل لأنه يعتقد أن حكمه ليس بقائم على مصلحة بل هو شعور خالص.
يقسم كنت الجمال إلى جمال حر وجمال تابع. الجمال الحر لا يفترض أي مفهوم لما يجب أن يكون عليه. بمعنى أنه لا توجد له محددات تحدد شكله إن كان مناسبا أم غير مناسب. أما الجمال التابع فهو الذي يفترض مفهوما ويكون كماله وفقا لهذا المفهوم. الأزهار تنتمي للنوع الأول فهي ذات جمال حر طبيعي لأن الحكم بجمالها لا يستند إلى مفهوم للكمال من أي نوع آخر. ويدرج كنت في هذا القسم كل الموسيقى الخالية من الكلام. أما جمال الإنسان ( رجل، امرأة، طفل ) فهو جمال تابع لأن هناك مفهوما سابقا يجب أن يحدد ما ينبغي أن يكون عليه هذا الشيء « الإنسان ». حكم الذوق ( الحكم بالجمال ) لا يكون حرا ومحضا عند كنت إلا إذا لم يكن متعلقا بغاية وليس حكما عقليا بل ذاتيا ولا معيّنا.
لماذا يختلف الناس في حكمهم على الجميل؟ يرى كنت سبب ذلك، بناء على ما سبق، يعود إلى أن بعضهم يحتكم إلى الجمال الحر، بينما يحتكم الآخرون إلى الجمال التابع. في فقرة حول المثل الأعلى للجمال يؤكد كنت أن الإنسان هو وحده من بين الأشياء في الدنيا القادر على مثل أعلى للجمال. كما أن الإنسانية في شخصه، بوصفه ذكاء، قادرة هي وحدها على مثل أعلى للكمال.
ثانيا: تحليل السامي:
ينتقل بنا كنت في هذا القسم من ملكة الحكم على الجميل إلى ملكة الحكم على السامي. أولا: الجميل والسامي متفقان في أنهما يلذان ( بضم الياء ) بنفسيهما. وللتفريق بينهما يقول كنت « الجميل يجتلب مباشرة شعورا بتفتح الحياة، وهو بهذا قابل لأن يتحد بالإثارات وبخيال يلعب، أما الشعور بالسامي فهو لذّة لا تنبثق إلا بطريق غير مباشر، لأنها تنتج عن الشعور بتوقف القوى الحيوية إبان لحظة قصيرة يتلوها مباشرة انطلاق لهذه القوى أقوى وأكبر، ولهذا فإنه بوصفه انفعالا فإنه لا يبدو أنه لعب، بل أمر جاد يشغل الخيال». والرضا الصادر عن السامي لا يشتمل على لّذة إيجابية بقدر ما يشتمل على الإعجاب والاحترام، ويستحق إذن أن ينعت بأنه لذّة سلبية. ولذا فإن السامي الحقيقي لا يمكن أن يكون متضمنا في أي شكل محسوس، إنه لا يتعلق إلّا بأفكار العقل.
يقسّم كنت السامي إلى قسمين وهو ما لم يفعله مع الجميل. القسم الأول هو السامي الرياضي والثاني هو السامي الديناميكي. السامي الرياضي هو الكبير كبرا مطلقا، ليس فقط كبير، وإنما كبير ببساطة وعلى وجه الإطلاق ومن كل النواحي. إنه سام وحينئذ فلا يُسمح بالبحث خارج هذا الشيء عن مقياس ملائم له. إنه مقدار لا يساوي غير نفسه. ولذا فالسامي لا ينبغي أن يُنشد في أشياء الطبيعة، وإنما في أفكارنا. السامي هو بالمقارنة إليه يكون كل الباقي صغيرا. إنني أشعر بالإجلال عند تفسير كنت للسامي. فهو الذي بمجرد إمكان تعقّله، يكشف عن وجود ملكة في النفس تتجاوز كل مقياس للحواس. أما السامي الديناميكي فهو تلك القوة التي لا سلطان لنا عليها. خذ مثلا الصخور التي تبرز وعرة مهددة في جو حافل بعواصف وغيوم تتجمع وتتقدم محفوفة بالبروق والرعود، والبراكين بكل قوّتها المدمرة، والأعاصير في المحيط الشاسع الغاضب، وشلالات النهر القوي...الخ هذه أشياء تقلص فينا قوّة المقاومة إلى حد ضئيل جدا مقارنة بقوتها. لكن لو كنا نحن في أمان ونحن نشاهدها، فإن منظرها يكون أكثر فتنة كلما كانت أبعث على الخوف. ونصف هذه الأشياء بكل سرور أنها سامية لأنها تسمو بقوّة النفس فوق المستوى العادي وتجعلنا نكتشف في أنفسنا قدرة على المقاومة من نوع آخر مختلف تماما، يزودنا بالشجاعة في مواجهة جبروت الطبيعة الظاهر.
كتاب كنت هذا هو عن الاستطيقا ( علم الجمال ) الترانسندنتالية ( المتعالية ) لملكة الحكم، وبالتالي فإنه لا يجوز الكلام إلا عن الأحكام الجمالية المحضة دون غيرها. علينا بالابتعاد عن الغائية لأنها لن تكون جمالية فلو وصفنا منظر السماء المرصعة بالنجوم بأنه سام فإن هذا الحكم لا ينبغي أن يبنى على غائية من نوع دقة حركة الكواكب وعدم اصطدامها بل علينا أن ننظر لها كما نراها فقط، أي كقبة بعيدة تحيط بكل شيء.
حكم الذوق ( الحكم بكون شيء ما جميل ) له خاصيتان: الأولى أنه مستقلا ولا يأتي بالاتباع والتقليد لأنه لا يتعين بمفاهيم أو تعليمات بل هو شعور ذاتي بحت. الثانية أن هذا الحكم ليس قابلا للتعيين بأسباب برهانية إطلاقا. لا يمكن الإقناع به لأنه غير مستند إلى براهين أصلا فهو ليس بحثا عقليا أو متعلقا بالفهم.
مسلمات التفكير:
في أحد استطراداته يشير إلى المسلمات التي تخص الفهم العادي للبشر وهي: 1- أن نقوم نحن أنفسنا بالتفكير. 2- أن نضع أنفسنا في عملية التفكير مكان كل إنسان آخر. 3- أن نفكر بانسجام دوما مع أنفسنا. المسلمة الأولى هي مسلمة التفكير الخالي من حكم مسبق ويسمى المتحقق منها متنورا لأنه لا يؤمن بالخرافات. المسلمة الثانية هي مسلة التفكير المنفتح. ومن لم يحققها فهو ضيق الأفق. المسلمة الثالثة هي مسلمة التفكير المنسجم. وهي نتيجة للمسلمتين السابقتين.
الفن
الفن بوصفه مهارة إنسانية يتميز عن العلم بأننا لسنا على معرفة بكيفية القيام به. كما يتميز عن الصناعة بكونه حر ( بدون أجر ) كما أنه لعب. ويرفض كنت وجود « علم للجمال » لأن هذا يعني أن يقرر المرء الأمور علميا، أي بناء على أسباب برهانية: هل الشيء جميل أو غير جميل، لكن الحكم على الجمال لا يمكن أن يكون حكم ذوق إذا انتسب إلى العلم.
الفن والعبقرية:
يعرّف كنت العبقرية بأنها الموهبة الطبيعية التي تعطي القاعدة للفن. ولذا فالفنون الجميلة هي فنون العبقرية. ولأن الفن لا يستطيع وضع قاعدة لنفسه فإن الطبيعة هي التي تضع هذه القواعد. إن الطبيعة تتحدث عن طريق العبقرية. والفنون عند كنت هي ثلاثة: فن القول ( البلاغة والشعر ) و(فن التشكيل ) (التجسيم والرسم) ( وفن الإحساسات ) الموسيقى وفن الألوان ). الشعر يحتل المقام الأول من بين كل الفنون عند كنت ( كونه يدين في أصله للعبقرية بشكل شبه كامل ) ثم يضع بعد الشعر الموسيقى ذلك أنها تهز النفس على نحو أكثر تنوعا وأشد عمقا وإن كان عابرا. ويفضل من بين الفنون التشكيلية الرسم لأنه يفيد كأساس، من حيث هو رسم، لكل ما تبقى منها ولأنه يمكن أن ينفذ نفوذا أعمق في منطقة الأفكار وأن يوسّع، تبعا لذلك، مجال العيان أكثر مما تستطيع ذلك سائر الفنون.
الفصل الثاني: جدلية ملكة الحكم الجمالية:
وفيه يناقش كنت باختصار مسائل بعض النقائض التي تواجه ملكة الحكم كما يتأمل الجمال أنه رمز للأخلاق. ويذكر بعض عناصر تمثيل الجميل التالية:
1- الجميل يسر مباشرة.
2- الجميل يسر بغض النظر عن أي منفعة.
3- حرية المخيّلة بالحكم بالجمال.
4- المبدأ الذاتي للحكم كميّ بمعنى أنه صادق بالنسبة للجميع.
الجزء الثاني: نقد ملكة الحكم الغائية
هل للطبيعة غاية في ذاتها؟ يرى كنت أننا لو تتبعنا عمل الطبيعة وتناسقها في ذاتها لعثرنا على عمل ميكانيكي بحت ولكن الغائية هي مفهوم نقوم بإضافته نحن إلى الطبيعة لتبدو غائية وذات مقصد. انظر لهذا المبدأ « إن النتاج المنظّم ( بفتح الظاء وتشديدها ) للطبيعة هو ذلك الذي فيه كل شيء غاية ووسيلة معا » وليس في هذا النتاج شيء بغير غاية أو يمكن أن ينسب إلى آلية طبيعية عمياء. يقول كنت أن هذا المبدأ بسبب كليته وضروريته لا يمكن أن يقوم فقط على التجربة. بل يجب أن يكون أساسه مبدأ قبلي. هنا في عقولنا دون اكتساب.
إلا أن بحث الغائية هذا يجب أن يتم التعامل معه بحذر لأنه من السهل جدا أن ينجر للميتافيزيقيا وكنت صاحب مبدأ واضح في أن الخلط بين العلم والميتافيزيقيا يفسد الاثنين فلا العلم يبقى علما ولا الميتافيزيقيا تبقى هي أيضا. ولذا فإن مفهوم غائية الطبيعة يجب أن يبحثه العلم في حدود الطبيعة نفسها دون غيرها. وبعد نقاش طويل ومعقد في مسألة التفسير الآلي والغائي للطبيعة وبعد أن أثبت كنت أن كلا التفسيرين لا يمكن أن يوصل إلى شيء ذو معنى يخلص إلى التالي: « يجب أن تفسّر آليا سائر ناتجات الطبيعة ووقائعها، حتى تلك الأكثر غائية، بقدر ما استطاع عقلنا إلى ذلك سبيلا، ولكن من دون أن يغيب عن أعيننا دوما أننا لا نستطيع رغم ذلك في نهاية الأمر، وفقا لتكوينة عقلنا الجوهرية وبغض النظر عن تلك العلل الآلية، إلا أن نخضع للعليّة بموجب غايات تلك ( الناتجات ووقائع الطبيعة ) التي لا نستطيع حتى إخضاعها لدراسة العقل إلا تحت مفهوم الغاية».
يلحق كنت بالكتاب ملحقا يناقش فيه المذاهب التي ناقشت الغائية كمذهب سبينوزا ومذاهب التجريبيين ليرى فيها نقصا دائما يحاول أن يكمله. ولكن ما هي الغاية الأخيرة للخليقة؟ يقول كنت أن ثمّة حكم يكاد يجمع عليه عند التفكير الأشياء في العالم بل وجود العالم نفسه، وهو أن جميع المخلوقات بشتى أنواعها، مهما كان الفن في بنيتها عظيما وتعددت الربط التي تحيلها إلى بعضها البعض بشكل غائي، كل هذا سيبدو وجوده عبثا لو لم يكن الإنسان فيه. وبالتالي فإن الإنسان هو الغاية الأخيرة للخليقة وهذا ما يتيح لنا النظر إلى العالم ككل مترابط وفق غايات.
وكعادته في أغلب كتبه يختم كنت مباحثه بفقرات يثبت فيها وجود الله وفي كل كتاب يستخدم برهانا قبليا ومن المعلوم أن كنت يرفض البرهان الأنطولوجي على وجود الله. وفي كتابنا هذا فإن برهانه برهان أخلاقي يقوم على أن وجود كائن أسمى « الله » يجعل للقانون الأخلاقي معنى وغاية.
في الختام لا بد أن نشير إلى الجهد الكبير الذي بذله مترجم الكتاب الدكتور غانم هنا أستاذ الفلسفة في جامعة بريمن / ألمانيا وجامعة دمشق وجامعة الكويت وكانت حصيلة هذا الجهد أن أصبح هذا الكتاب الأساسي في متناول القارئ العربي وبترجمة ميسّرة ولكنها تحتاج بالتأكيد إلى جهد وجديّة من القارئ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق