حنا ديب: هيجل و فويرباخ PDF - رفوف

اخر المواضيع

الاثنين، 15 أغسطس 2016

حنا ديب: هيجل و فويرباخ PDF




في مقالته “ضرورة تغيير” (1) التي كتبها سنة 1842، يعرض لودفيغ فويرباخ Ludwig Feuerbach نظرته لأهم ما يجب أن تكون منطلقات الفلسفة الجديدة.


«ان فلسفة جديدة تنبثق، كسابقاتها، من نفس الاساس التاريخي هي شيء؛ لكن فلسفة تنبثق من عصر جديد بشكل جذري للتاريخ الانساني هي شيء مختلف كليا. ان فلسفة ليست سوى ابنة الحاجة الفلسفية (فلسفة فيشته مثلا، في علاقتها بفلسفة كانط) هي شيء؛ لكن فلسفة تستجيب لحاجة للانسانية هي شيء مختلف كليا. ان فلسفة تتبع تاريخ الفلسفة، ولا تلامس تاريخ الانسانية إلا بطريقة غير مباشرة هي شيء؛ لكن فلسفة هي مباشرة تاريخ للانسانية هي شيء مختلف كليا».

تحميل وقراءة اونلاين🕮


إذا، الفلسفة الجديدة كاصلاح للفلسفة يجب أن تنطلق من:
1- سمات المرحلة التي بلغها التاريخ الانساني أو الحضارة الانسانية.
2- هذه السمات التي تحدد حاجة الانسانية في المرحلة التاريخية المعنية
3- وان تكون هي نفسها تاريخا للانسانية بشكل مباشر.

وهذا يعني أنه لا يمكن خلق فلسفة جديدة ما لم يطرأ جديد على الحضارة البشرية، ما لم يحصل تغيير جذري على هذه الحضارة. كما أن كل تغيير جذري يطرأ على التاريخ والحضارة الانسانيين لا بد أن ينشىء فلسفة جديدة جذرية ومختلفة عن فلسفة المرحلة التي سبقتها. وعلى الفلسفة الجديدة أن تلبي حاجة انسانية، لا يمكن بلوغها عن طريق الفلسفات السابقة.

ومن جهة أخرى فإن طرح ضرورة اصلاح الفلسفة من وجهة نظر فلسفية بحتة، كما يرى فويرباخ، سيكون نظرة محدودة، تدخلنا في صراع مدرسي خالص هو في غاية العبث. ان الاصلاح الوحيد الذي يمكن أن يكون ضروريا وصحيحا، هو ذلك الذي يستجيب لمطلب العصر الحالي والانسانية، وهو يقصد بذلك أن مهمة الفلسفة هي وضع الاساس النظري لتنظيم المجتمع الانساني والعلاقات الانسانية المستقبلية، أي استشفاف المستقبل، وليس محاكاة الافكار التي ولى زمانها.

لكن ذلك لا يعني القطع مع الماضي، بل لا بد من الانطلاق من المكاسب التي حققتها الانسانية سواء على صعيد مختلف العلوم بما فيها الفلسفة، ام على صعيد العلاقات الاجتماعية. ان فويرباخ لم يتقوقع في مكتبه جاعلا الافكار تصارع بعضها للمجيء بالجديد، بل انطلق إلى المجتمع، إلى الطبيعة ليكتشف المجرى الطبيعي لحياة المجتمع البشري من خلال تعرفه مباشرة على هذا “المجرى”. Ne pas inventer mais découvrir ، يقول عن هدفه في كتابه “ماهية المسيحية” Essence du christianisme، أي انه يريد اكتشاف السير الطبيعي للحياة البشرية (dévoiler l’existence) وليس تعيين مسيرة “من رأسه” لهذه الحياة. وهذا ما يعيد تأكيده في كتابه “موضوعات مؤقتة من أجل اصلاح الفلسفة” حيث يقول في الموضوعة (34): «الفلسفة هي الاطلاع على ما هو موجود، تفكير ومعرفة الأشياء والكائنات كما هي، هذا هو القانون الأول، هذه هي المهمة الأولى للفلسفة». من هنا كان تعلقه بالطبيعة وعقده الامال على دراستها، فهو ينهي كتابه “نقد فلسفة هيغل” الذي كتبه سنة 1839 بالقول: «الاسرار الاكثر عمقا تسكن الاشياء الطبيعية الاكثر بساطة».

واذ يجزم فويرباخ بأننا في عصر جديد مختلف عن العصور السابقة التي عاشتها الانسانية فهذا يعني بالنسبة له ضرورة وجود فلسفة جديدة مختلفة عن سابقاتها، هي الفلسفة التي “تستجيب للتاريخ الحالي وللانسانية”. هذا الموقف الفويرباخي الذي قد يبدو للبعض عاديا ومعروفا ومطبقا من عامة المفكرين، ليس كذلك إذا اخدناه بالارتباط بالمرحلة والظروف التي كانت تعيشها الفلسفة، وفي المانيا خاصة.

عندما وضع فويرباخ فلسفته في أواخر ثلاثينات وأوائل اربعينات القرن التاسع عشر، كانت فلسفة هيغل مسيطرة بدون منازع رغم وفاة المعلم. وبالتالي كان من المستحيل على أية فلسفة اخرى عبور طريق التقدم الفلسفي دون التغلب على ذلك الحاجز الذي هو فلسفة هيغل نفسها.

طبعا يقر هيغل بأن تطور الفلسفة يحتاج إلى تغير في الظروف الذاتية والموضوعية أو الداخلية والخارجية كما يسميها(2)، لكن هذا التطور يبقى عنده تطورا من داخل الفلسفة نفسها وتبقى عنده الظروف اللافلسفية لتطور الفلسفة مجرد حوافز. وكل نظام هيغل الفلسفي ومنهجيته يدلان على ذلك. فبالنسبة له يشكل نظامه ذروة التطور الفلسفي لأنه يجمع في ذاته كل الفلسفات الكبرى التي سيطرت في مراحل تاريخية سابقة، حتى ان كل فلسفة شغلت مرحلة سابقة دخلت في نظامه وتم التعبير عنها بمقولة في منطقه الذي هو الاساس لنظامه الفلسفي.

فهو يبدأ منطقه بمقولة الوجود المجرد، أي الخالي من أي تعين، معتبرا أن هذا الوجود المجرد هو البداية الحقيقية للفلسفة، بمعنى أنه اساس كل شيء، وهذه المقولة هي نفسها المبدأ الذي انطلقت منه أول نظرة فلسفية متكاملة في تاريخ الفلسفة أي فلسفة بارمنيدس. وتأتي بعدها مقولة الصيرورة التي أخذها هيراقليطس مبدأ لفلسفته… وهكذا يستمر هيغل بالاستنباط حتى مقولة التفاعل، وهي تمثل مقولة أساسية في فلسفة كانط. وكل المقولات التي يشملها منطق هيغل بعد مقولة التفاعل، أعني مقولات الفكرة Begriff هي مقولات خاصة بهيغل وحده وهي أهم أسرار منطقه الديالكتيكي.

وحول هذه النقطة يقول فويرباخ في مقالته المذكورة: «لم تكن الفلسفة الهيغلية سوى المركب العشوائي لمختلف الأنظمة الموجودة، لكنها بدون قوة ايجابية لأنها بدون سلبية مطلقة. وحده يملك القدرة على خلق الجديد ذلك الذي لديه الشجاعة بان يكون سلبيا بالمطلق».

ومن ناحية ثانية، على الصعيد الاجتماعي، كان هيغل يعتقد، ولو تردد مرارا في ذلك(4)، متأثرا بالردة الدينية في عهد عودة الملكية، انه بالامكان المصالحة بين المسيحية والعالم البرجوازي المنتصر.

في 1830 كتب إلى كوشل Goschel قائلا: ان اتساع المصالح السياسية بلع كل شيء، وانتج أزمة ظهر فيها أن كل شيء كان صحيحا سابقا أصبح مشكوكا فيه. ولقد ادعى ان الفلسفة لا تقاوم الجهل والعنف المفرط الذي لا كابح له، وعليها ان تحافظ على المحتوى وتوفر الأمان لنخبة مختارة. لكن هذا التشاؤم لم يدم، ففي نهاية كانون الثاني 1831 كان هيغل واثقا أن تهديد حدود بروسيا لم يهدد النظام السياسي في الداخل. وبالنتيجة، أعاد تأكيد الدور التاريخي لفلسفته كقوة مصالحة بادخال احداث 1830-1831 داخل مقولات نظامه.

لم يعترف هيغل بأن الازمات في بلدان أوروبية عديدة هي دليل بلوغ عصر جديد، إنما اعتبرها دليل عدم بلوغ هذه البلدان مرحلة التطور التاريخي المحقق في بروسيا. فمصدر الاضطرابات الثورية في البلدان الكاثوليكية (فرنسا)، كان برأيه التناقض بين التصرفات الدينية الرجعية والمؤسسات العقلانية للدولة الحديثة. إن الحرية السياسية تبقى برأيه شكلية بدون تحرر الوعي الذي تؤمنه البروتستانتية… أما في بريطانيا التي سيطرت فيها البروتستانتية، فإن مصادر الأزمات السياسية والاجتماعية المعاصرة كانت مختلفة، حيث أغلب التناقضات وعدم المساواة في البنية القانونية والمؤسساتية سببها تغليب مصالح الطبقات المميزة تقليديا، أكثر مما هي تعبير عن المبادئ الكلية للعقل. لذلك، لحل الأزمة في بريطانيا، يجب اجراء اصلاح، وإقامة تقنين بالتوافق مع المبادئ الكلية العقلية، وايجاد مؤسسة إدارية تسمح للحكومة بالعمل وفقا لمصالح الجماعة كلها.

وقد رأى هيغل أن الليبرالية التموزية (عهد عوة الملكية)، (Toews, op.cit.) سلبية بالكامل، ومدمرة، ولا تشتمل على مبادئ ايجابية لإعادة البناء السياسية والثقافية. ومن جهة اخرى، لم يعتبر أن موقفه الفلسفي حددته احداث 1830-31، لأنه كان مقتنعا أن الازمات التي ظهرت في تلك الاحداث كانت قد حلت في بروسيا، ويمكن حلها في أي مكان، فقط على الطريقة البروسية.

أما فويرباخ فقد استشف الانقطاع النهائي بين المسيحية وما وصل اليه العالم البرجوازي، وانتهى به الامر إلى قطع الروابط مع عالم سائر إلى الهلاك، كما يصل هنري ارفون في تحليله(5). ويرى هذا الأخير أيضا (Arvon op.cit.p4) أن فويرباخ شوش الفلسفة الرسمية (اي فلسفة هيغل في حينه)، آخذا بذلك ثأره لا بعاده عن الجامعة. وفويرباخ يقول في ذلك: “أنا لست شيئا ما، إلا لأنني لزمن طويل لست شيئا”.

والواقع، أن المعنى الفلسفي والسيكولوجي والاجتماعي، لهذا القول الأخير لفويرباخ اعمق بكثير من تعليق ارفون. انه نقد لهيغل، للسياسة القائمة ولوضع الفلسفة، انه تعبير عن عمق تفكير فويرباخ وافتخاره بموقفه، قبل أن يعبر عن جرح داخلي موجود عنده بالفعل. وكل كتابات فويرباخ تثبت بما فيه الكفاية أنه، كشخص وكفيلسوف، هو انسان يتألم عن نفسه وعن الآخرين. وفي كل الاحوال أن هذه الافكار التي تحتملها نظرية فويرباخ هي ما يحتاجه عصرنا.

بالعودة إلى موضوعنا، من أين انطلق فويرباخ للوصول إلى الفلسفة التي تستجيب لحاجة العصر الحالي والانسانية. في مقالته “ضرورة تغيير” يقول فويرباخ: “ان عصور الانسانية لا تتمايز فيما بينها إلا بالتحولات الدينية.” لكنه يرى أن المسيحية قد نفيت من دون رجعة في الروح وفي القلب، في الفن والصناعة وفقدت كل قوة على المقاومة. ومن جهة اخرى، فإن الفلسفة التي تعود إلى عصر المسيحية وتدعي في نفس الوقت انها مسيحية، أي فلسفة هيغل، اخفت سلبها للمسيحية تحت شكل التناقض بين التمثل والفكر (اي ان موضوع الدين والفلسفة عند هيغل هو واحد، لكن الفلسفة تعتمد الفكر في التعبير عن موضوعها، بينما الدين يعتمد التمثل، وليس المجال هنا لشرح هذه الفكرة التي اخذت حيزا هاما في النقاش بين مختلف الشيع الهيغلية في مراحل مختلفة من النصف الاول من القرن التاسع عشر).

ومن جهة ثالثة، كان فويرباخ منذ سنة 1826 قد ارفق اطروحته إلى استاذه هيغل برسالة يقول فيها صراحة: «لذلك فإن المسيحية لا يمكن ان تعتبر كالدين الكامل والمطلق، ان هذا لا يمكن ان يكون سوى سيادة واقع الفكرة والعقل الموجود فعليا» (عن Arvon, op. cit., p. 11)، فكان فويرباخ بذلك اول الهيغليين الشباب الذي استخلص نتائج ضد-مسيحية من فلسفة هيغل نفسها.

وفي مقالته التي نحن بصددها، أي “ضرورة تغيير”، يطرح فويرباخ بشكل حازم الحاجة الاساسية للانسانية، معتبرا أن نفي المسيحية لم يكن واعيا حتى ذلك الحين، « اليوم فقط هو نفي واع او اصبح كذلك، مرغوب فيه، موجه مباشرة، خصوصا وان المسيحية تحالفت مع اعداء الحاجة الاساسية للانسانية، حاجة الحرية السياسية. ان النفي الواعي يؤسس عصرا جديدا، يؤسس لضرورة فلسفة جديدة، صريحة، لا تكون مسيحية، إنما ضد-مسيحية بكل جرأة ».

وهو يختتم تمهيده لكتابه “ماهية المسيحية” معبرا عن الظواهر المميزة للعصر الجديد والتي تتناقض مع المسيحية. يقول : «000 ان المسيحية اختفت منذ زمن طويل ليس فقط من العقل ، انما ايضا من حياة الانسانية، وانها لم تعد سوى فكرة ثابتة توجد في التناقض الصارخ مع شركاتنا للتأمين 000 مع خطوط سككنا الحديدية وقطاراتنا، مع معارضنا 000 مع مسارحنا ومكتباتنا للتاريخ الطبيعي» (“Essence….”,op.cit.,p.113).

وهو يستنتج ان عدم الايمان حل محل الايمان، العقل محل الكتاب المقدس، السياسة محل الدين والكنيسة، الارض محل السماء، العمل محل الصلاة، البؤس المادي محل جهنم والانسان محل المسيحي. لكن إذا كان الامر كذلك في التطبيق، ففي النظرية إذا، يجب ان يحل الكائن الانساني محل الكائن الالهي، مع البقاء ضمن الاطار الديني. من هنا يستنتج فويرباخ: “يجب ان تصبح السياسة ديننا”، لكن هذا يحتاج إلى مبدأ سام جدير بان يحول السياسة إلى دين… وهذا المبدأ ليس شيئا آخر سوى الالحاد، التخلي عن اله متميز عن الانسان(*). هذا يعني انه لا يمكن، بالنسبة لفويرباخ، الغاء الدين انما اله الدين الجديد لن يكون متميزا عن الانسان.

في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه الاساسي “ماهية المسيحية” المذكور اعلاه، يقول ان الكتاب يقسم إلى قسمين، القسم الأول ايجابي والثاني سلبي في القسم الاكبر منه. وهو يبين الاختلاف بين القسمين، موضحا أنه في القسم الأول الذي يسميه “الماهية الحقيقية أي الانثروبولوجية للدين” يبرهن أن المعنى الحقيقي للاهوت هو الانثربولوجيا، وانه ليس هناك من اختلاف بين محمولات الكائن الالهي ومحمولات الكائن الانساني. اما في القسم الثاني الذي يسميه “الماهية غير الحقيقية اي اللاهوتية للدين” فهو، بالعكس، يبرهن ان الاختلاف الذي نقيمه أو ندعي اقامته بين المحمولات اللاهوتية والمحمولات الانثروبولوجية يتحول إلى عدم ومحال. ويوضح ماركس فارتوفسكي فكرة فويرباخ قائلا “ان موضوع القسم الاول هو الدين، وموضوع القسم الثاني هو اللاهوت. اما المركب فهو اعادة صياغة القسم الأول، ولكن بمعناه الحقيقي، المتوسط: موضوع الدين هو الانسان، لذلك الماهية الحقيقية للدين هي الانثربولوجيا، اي دراسة الطبيعة الانسانية…”(6).

باختصار إذا، لقد أصبحت المسيحية في تناقض مع الحاجة الأساسية للانسانية، الحرية السياسية، وبما ان العصور التاريخية لا تختلف فيما بينها لا بالتبدلات الدينية، فلا بد من اقامة دين جديد يستجيب للتغيرات الاجتماعية التي لم تستطع المسيحية الاجابة عليها ولا التجاوب معها، لا بد من اصلاح ديني، كذلك الذي قامت به اللوثرية، ولكن مع الاسف فإن هذه الأخيرة التي تأثر بها فويرباخ إلى حد بعيد، قد ضعفت وشارفت على الانهيار بعد قرن من سيطرة العقلانية الحادة. وهذه النظرة الأخيرة لفويرباخ هي ما يميز موقفه عن موقف هيغل من البروتستانية الذي المحنا اليه أعلاه، بالرغم من اتفاقهما على تقدير أهميتها.

لذلك، وانسجاما مع فكرته المذكورة حاول فويرباخ، بوحي لوثري، القيام بهذا الاصلاح الديني. من هنا جاء كتابه الذي كتبه سنة 1842 بعد كتاب “ماهية المسيحية” مباشرة، أي كتاب “أطروحات مؤقتة من أجل اصلاح الفلسفة” حاملا عنوان “الاصلاح” Reformation وقد تغير هذا العنوان إلى “اصلاح” Reform في الطبعة الثانية المنقحة سنة 1846، علما أن “الموضوعات” مثل كل كتابات فويرباخ الأخرى تحتفظ بمكانة مرموقة للوثرية. لكن، يعلق ماركس فارتوفسكي « إن الطموح للقيام باصلاح ديني ثان، يبقى واضحا في الكتاب مناقضا التواضع في تغيير العنوان» (Wartofsky, op.cit., p.349). ويسمي فويرباخ نظريته الجديدة بالانثروبولوجيا الالهية Anthropothéisme .

ويعبر فويرباخ عن اصلاحه في الموضوعة رقم (49) بالقول: « إن الالوهية théisme تستند على النزاع بين الرأس والقلب، الحلولية panthéisme تمثل الغاء النزاع في النزاع؛ الانثربولوجيا الالهية anthropothéisme تعبر فقط بطريقة عقلية في الرأس ما يقوله القلب على طريقته. إن الدين ليس سوى انفعال، احساس، قلب، حب، أي سلب، حل الله في الانسان. وكسلب للاهوت الذي ينفي حقيقة الانفعال الديني ، فإن الفلسفة الجديدة إذا هي موضع الدين. الانثربولوجيا الالهية هي الدين الواعي ذاته، الدين الذي يفهم ذاته… ».

وبانسجام كامل مع نظراته السابقة يعتبر في مقدمة “المبادىء” أن مهمة فلسفة المستقبل هي اعادة الفلسفة من مملكة “النفوس الميتة” إلى ممكلة النفوس الحية، انزالها من غبطة فكر الهي وبدون حاجات إلى البؤس الانساني. ومن جهة أخرى فإن المبادىء ثمرة عمل قاس، وكان عليها أن تستنبط من فلسفة المطلق، أي فلسفة هيغل، ضرورة فلسفة الانسان.

في “المبادىء” يعتبر فويرباخ ان مهمة الأزمنة الحديثة كانت وقعنة وانسنة الله، أي انها مهدّت للنظرية الانثروبولوجية، والطريقة العملية لذلك كانت البروتستانتية كما يقول في المبدأ الثاني من “مبادىء فلسفة المستقبل”.

بانسجام مع “الموضوعات” حيث يقول في الموضوعة الثانية: سبينوزا هو المبدع الحقيقي للفلسفة النظرية speculative الحديثة. شيللنغ Schelling أنعشها، هيغل أكملها. يؤكد فويرباخ في المبدأ (19): «إن فلسفة هيغل هي التي تمثل اكمال الفلسفة الحديثة، لذلك فإن التبرير والضرورة التاريخيين للفلسفة الجديدة يرتبطان قبل كل شيء بنقد هيغل».

لذلك بعدما كان قد نقد هيغل وأنزله عن عرش الفلسفة في كتابه “مساهمة في نقد فلسفة هيغل” سنة 1839 يخصص فويرباخ الكثير من كتاباته اللاحقة لنقد الهيغلية التي يفندها للأغراض التي تهمه في كتابه “المبادىء” وذلك من المبدأ (19) المذكور أعلاه وحتى المبدأ (31).

طبعا، لا يتسع المجال هنا لشرح النقد الفويرباخي للهيغلية، لكننا سنأتي على ذلك بقدر ما هو ضروري لتوضيح موضوعنا.

بتناقض كامل مع هيغل، يعتبر فويرباخ ان بداية الفلسفة ليست المطلق أي اللامتناهي. إن بداية الفلسفة هي المتناهي، المتعين، الواقعي. وفي هذا المتناهي = الواقعي يوجد اللامتناهي، ومهمة الفلسفة ايجاد هذا اللامتناهي الحقيقي.

عبر التاريخ كان الفلاسفة يبحثون عن المطلق، اللامتناهي الذي نشأت عنه الأشياء المتناهية، وقد جاء فويرباخ ليوضح ان المتناهي هو الأول، هو موجود بمفرده، بل هو الذي “يولد” اللامتناهي. هذا الأخير الذي لا يدرك إلا بالفكر، هو نتاج المتناهي أي الواقعي. فلاتفكير إلا بعد انفعال، ولا انفعال إلا بتأثير الواقع الفعلي.

والواقع الفعلي المقصود لا يوجد إلا في المكان والزمان، فيهما ينكشف اللامتناهي الحقيقي. انهما ليسا مجرد شكل كل وجود بل شروط للوجود ولأشكال العقل، لقوانين الفكر والوجود. وإذا كان من العبث التفكير بالتطور خارج المكان أو بدون المكان كما هو متفق عليه عموما، فإن فويرباخ يرى (الموضوعة 41) ان التطور بدون زمان هو تطور بدون تطور. وكذلك بدون مكان ليس هناك مجالا لوجود نظام، والمجال كاف لوجود كل الأنظمة، فلا الزهرة في مكان وجود المريخ ولا العين في مكان وجود الأذن. كما ان المكان والزمان هما أشكال كشف اللامتناهي الحقيقي: الكائن الالهي، وذلك من خلال الألم الذي لا يحصل إلا في الزمان والمكان. ويعبر فويرباخ عن ذلك بطريقة شاعرية في الموضوعة (43) قائلا: «وحده يستحق أن يوجد ذاك الذي يستطيع أن يتألم. وحده الكائن المتألم هو كائن الهي. إن وجودا بدون انفعال هو وجود بدون وجود. إن وجودا بدون انفعال ليس سوى وجود بدون حساسية، بدون مادة ». وهذه نظرة مادية بحتة. الفلسفة يجب أن تتضمن مبدأ منفعلا. فالمادة تسبب الانفعال الذي يسمح بالتفكير، وهذا هو المبدأ الأول الذي ينطلق منه فويرباخ لوضع نظريته بعد أن انتهى من نقد الفلسفة الحديثة وذروتها فلسفة هيغل. لكن طبعا ليس هذا هو الهدف بالنسبة لنا، فما يهمنا بالأساس هو معرفة فلسفة فويرباخ التي تستجيب لحاجة الانسانية.

لقد كان هيغل قد أسس فلسفته (منطلقا من المنطق) على أساس الفكر المجرد، وتحديدا الفكر بدون مفكر، لكن فويرباخ عارض ذلك معتبرا في الموضوعة (45) انه على الفيلسوف أن يدخل في متن الفلسفة حصة الانسان الذي لا يتفلسف، بل الذي هو ضد الفلسفة والذي يحارب الفكر المجرد، وبذلك تصبح الفلسفة قوة كلية، قادرة ولا تقاوم، وهو يقول: «يجب إذا ألا تبدأ الفلسفة بذاتها بل بنقيضتها باللافلسفة. هذه الماهية المتميزة عن الفكر، هذه الماهية اللافلسفية واللامدرسية بالمطلق الموجودة فينا هي مبدأ الحسية». هكذا توصل هيغل إلى مبدأ الحسية من خلال نقده للفلسفة النظرية. وفي “المبادىء” يشرح فويرباخ كيف تحصل الضرورة التاريخية وتتكوّن الفلسفة الجديدة انطلاقا من القديمة.

بانسجام مع قول هيغل عن منطقه بأنه “الله في ماهيته الأزلية أي قبل خلق العالم”، يرى فويرباخ ان الفكرة ]المنطق[ عند هيغل تحقق ذاتها بنفس الطريقة التي يكشف بها الله عن ذاته ويصبح عالما وواقعا. لكن بمجرد الدخول في مملكة الواقعية مع تحقق الفكرة ووجودها، مجرد أن تصبح حقيقة الفكرة بأن تكون واقعية وتوجد وجودا فعليا نتخذ من الوجود الفعلي معيار الحقيقية: الحقيقي هو الواقعي. وهنا يطرح السؤال: ما هو الواقعي؟ هل ما هو موضوع للفكر فقط؟ فإذا كان الأمر كذلك نبقى مع الفكرة المجردة. ذلك أن مثل افلاطون مثلا هي موضوع للفكر، الماوراء هو موضوع للايمان والتمثل… الخ. إذا بهذه الطريقة نبقى مع هوية الفكر مع ذاته، الفكر الذي يفكر ذاته. لذلك لنأخذ بشكل جدي واقعية الفكر (أو الفكرة) يجب أن نضيف له شيئا مختلفا عنه أي، بكلام آخر، يجب أن يكون للفكر المتحقق وجودا مختلفا عن الفكر غير المتحقق، عن الفكر البسيط: ألا يكون من الفكر انما أيضا من اللافكر. أن يحقق الفكر ذاته يعني أن يسلب ذاته ويتوقف عن أن يكون فكرا بسيطا. ما هو هذا اللافكر، هذا العنصر المتميز عن الفكر؟ إنه المحسوس Le sensible. إن تحقق الفكرة ذاتها يعني أن تجعل من ذاتها موضوعا للحواس. المحسوس إذا هو واقع الفكرة، وبما أن الواقع هو حقيقة الفكرة يكون المحسوس وحده هو حقيقة الفكرة. يبقى أن نعرف لماذا تصبح الفكرة محسوسة؟ أليس للمحسوس قيمة لذاته دون أن يمثل واقع الفكرة؟ ولماذا لم يكن كذلك لماذا تحتاجه الفكرة؟ مع اننا هنا لا نعبر عن واقع المحسوس إلا مداورة، أي بالانطلاق من حقيقة الفكر، حيث كما ظهر أعلاه يبدو وكأن المحسوس محمولا للفكر، وهذا تناقض. ولا يمكن الخروج من هذا التناقض إلا بجعل المحسوس ذاتا لذاته، بإعطائه معنى مطلقا ومستقلا وأوليا. إنه وحده حقيقة الفكر.

من هنا، الفلسفة الجديدة تبدأ بالقضية: إنني كائن واقعي، كائن محسوس. نعم، إن جسدي بكامله هو أناي، هو ماهيتي ذاتها، وهذه الماهية تستند على حقيقة الحب، حقيقة العاطفة. فإذا أخذنا الفلسفة الجديدة في علاقتها بمبدئها، فإنها ليست سوى ماهية العاطفة مرفوعة إلى الوعي، إنها لا تفعل سوى أن تثبت في العقل ما يعترف به كل منا في قلبه. وبالنتيجة فإن الحب عند فويرباخ هو المعيار الذاتي كما الموضوعي للوجود، معيار الحقيقة والواقع. في الحب وحده ينكشف سر الوجود. إن موضوع ومبدأ الفلسفة الجديدة هو الوجود الواقعي والشامل للانسان. إنها ترتكز على الوهية الانسان وليس الوهية العقل كما هو الحال في الفلسفة النظرية.

وكذلك فإن نظرية المعرفة أيضا عند فويرباخ تستند على مبدأ الحسية. فهو يقول في المبدأ (51): « العالم ليس منفتحا كثيرا إلا لرأس مفتوح، ووحدها الحواس هي فتحات الرأس ».

وهو يعتبر أن كل الفلسفات لم تختلف عن بعضها حتى الآن إلا من حيث النوع وليس من حيث الجنس، لذلك لا بد أن تتميز الفلسفة الجديدة عن ما قبلها من حيث الماهية، وهذا ما تستجيب له فلسفته التي لها في ذاتها ماهية الدين: إنها في الحقيقة هي نفسها دين. وفويرباخ يعبر عن دينه الجديد الذي يستجيب لحاجات الانسانية في مقالته « “ماهية المسيحية” في علاقته ب”الوحيد” وملكه» حيث يقول: « ألا يكون عندك دين يعني: انك لا تفكر إلاّ بنفسك. أن يكون لك دين معناه: أن تفكر بآخرين غيرك. وهذا الدين سيكون الدئم الوحيد، على الأقل، ما دام يوجد على الارض أكثر من انسان “وحيد”».

ويستنتج فويرباخ في المبدأ (54): « إن الفلسفة الجديدة تجعل من الانسان المتحد مع الطبيعة (كأساس للانسان) الموضوع الوحيد، الشامل والأسمى للفلسفة، إذا للانثروبولوجيا المتحدة مع الفيزيولوجيا، للعلم الكلي ».

“تأملوا الطبيعة، تأملوا الانسان! أسرار الفلسفة أمامكم” كما يقول في الموضوعة (56).

لكن الطبيعة هي الماهية التي لا تتميز عن الوجود الفعلي، الانسان هو الماهية التي تتميز عن هذا الوجود. والماهية التي لا تتميز عن الوجود هي أساس الماهية التي تتميز عنه، لذلك فإن الطبيعة هي أساس الانسان.

من هنا كل العلوم يجب أن تستند إلى الطبيعة. وكل نظرية تبقى فرضية طالما لم تجد أساسها الطبيعي، وهذا يصح على نظرية الحرية. وحدها الفلسفة الجديدة توصلت إلى طبعنة الحرية التي كانت حتى الآن فرضية فوق طبيعية، كما يقول في المبدأ (65). وبالتالي على الفلسفة أن تتحد مع علوم الطبيعة وأن تتحد هذه الأخيرة مع الفلسفة، وهذا الاتحاد المبني على ضرورة داخلية سيكون أكثر خصوبة من الزواج غير المتكافىء الذي وجد حتى الآن بين الفلسفة واللاهوت.

وعلى الصعيد السياسي، الدولة هي الشمولية المحققة للماهية الانسانية، ذلك أن الانسان هو الماهية الأساسية للدولة. الصفات والنشاطات الأساسية للناس تتحقق في حالات خاصة لتعود من جديد إلى الهوية في شخص رئيس الدولة، الذي عليه أن يمثل كل هذه الحالات دون تمييز، فجميعها بالنسبة له ضرورية ومبررة. إن رئيس الدولة هو ممثل الانسان الكلي.

وعلى الصعيد الديني، تقلب الفلسفة الجديدة عكسيا الوحدة التي أقامتها المسيحية بين اسم الله واسم الانسان باسم الانسان – الاله، والتي جعلت الانسان مسندا للكائن الأسمى، فتجعل الفلسفة الجديدة من المحمول ذاتا ومن المسند الجوهر بحيث تصبح وحدة الانسان – الاله: وحدة الانسان مع الانسان، يصبح الانسان الها للانسان. والحرية تتحقق بأن يفكر كل انسان بالآخرين ورئيس الدولة يفكر بالجميع بالتساوي، وبنفس الوقت تتحقق وحدة الدين والفلسفة والسياسة.

ملاحظة:-


* هنا لا بد من توضيح معنى الالحاد عند فويرباخ، هذا المعنى الذي لا يتناقض عنده مع الايمان الديني. بل كما يقول ارفون “منظورا اليها عن قرب، فإن مؤلفاته تشبه قطعة قماش منسوجة بلا كلل، حيث الالوهية تقصّب الخيوط الذهبية لأهدافه” (Arvon, op.cit., p.8). لكن فويرباخ يميز بين الملحد athéiste وبين الغير متدين irréligieux ، الأول لا يؤمن بدين أو أديان معينة لكن له دينه، أما الغير متدين فهو الذي لا دين له اطلاقا، وهذا ما يتنافى مع صفة الانسانية، إذ إن فويرباخ يعرّف الانسان على أنه “كائن متدين”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق